-->

رواية اللص والكلاب: تحليل - الجزء الأول

تحليل رواية اللص والكلاب الجزء الأول


تقديم

القضيّة الكبرى التي تُطلّ من هذا العمل الروائيّ هي العدالة. فاللصّ المجرم هنا ضحيّة ظروف، أبسطها الفقر، وأعقدها أنّه أُعِدّ إعدادًا فكريًّا معيّنًا جعله يحسّ إحساسًا حادًّا بمعنى العدل والوفاء وتكافؤ الفرص، وقد رأى هذه المعاني تنهار، وآلمه أنّه رآها تنهار تحت سمع المجتمع وبصره فلا يحسّ بها أحد ولا يدافع عنها أحد.

سعيد مهران شخصية ضد التيار

سعيد مهران شخصيّة تقف ضدّ التيّار، هو الثائر المتمرّد الذي يعتمد - في تمرّده – على مقدراته الشخصيّة الفرديّة، هو البطل الذي يرفض الانتماء (البطل اللا منتمي – على حدّ تعبير الناقد المصريّ غالي شكري)، هو نموذج التمزّق والضياع والإحساس بالغربة، فقدَ الأرض تحت قدميه وفقدَ دوره الاجتماعيّ.

سعيد لصّ مثقّف

سعيد لصّ مثقّف (أو نصف مثقّف – ومن هنا يأخذ بعضهم على الكاتب أنّه يجعل البطل يتفوّه ويعبّر عمّا يجول في خَلده هو من أفكار اجتماعيّة وفلسفيّة، ومن ثَمّ لا تأتي أحاديثه أو حواراته أو أفكاره متناسبة حقًّا مع مستواه الثقافيّ غير المتكامل). في الماضي، شارك في حركة ثوريّة سرّيّة (غير محدّدة المعالم، لكن يبدو أنّها ماركسيّة). لكن في أحداث الرواية لا يشارك في نشاط كهذا.
لديه "رسالة" (مَهمّة) مفروضة ذاتيًّا ومحدَّدة وعليه إنجازها: أن يصفّي حساباته مع الخونة. وهو أيضًا يحارب الخيانة، ويرى كلّ الخونة (أولئك "الكلاب" الذين يُفسدون حياة الناس البسطاء) أعداءً له.

سعيد ذو هدف مفرد

سعيد ذو هدف مفرد، هدف يستقطب قواه كلّها، إلى حدّ الاستبداد به على نحو غير سويّ، رغم أنّه ليس شخصيّة بسيطة أو ذات جانب واحد. في الفترة القصيرة التي نقابله فيها في الرواية (وهي فترة لا تستغرق أكثر من بضعة أسابيع)، نحظى بصورة حيّة لشخصيّته المتعدّدة الجوانب والنابضة بالحيويّة؛ ولطريقته الخاصّة في التفكير؛ ولأزمته الداخليّة القاسية؛ ولترجّحه بين العنف والتزهّد، وبين الكراهية والحبّ. وتعاطف القارئ مع هذه الشخصيّة تعاطف غير تامّ. ومن هنا يمكن الادّعاء أنّ الكاتب صوّر شخصيّة شديدة الواقعيّة: مظلومة وظالمة؛ مُحِبّة وكارهة؛ باغضة ومبغوضة؛ مُساء إليها ومسيئة إلى غيرها.

تحيز الكاتب والقارئ

سعيد شخصيّة يتحيّز إليها الكاتب ومن ثَمّ القارئُ. ربّما كانت هذه الحقيقة ناجمة –إلى مدًى ما- عن التكنيك الذي وَفقًا له يُرى كلّ شيء عَبْر عينَيِ الشخصيّة. نحن "نعيش" من خلال البطل، ونواجه معه الأوضاع التي يجابهها. حتّى الماضي لا يُنقَل بواسطة إجمالات منظَّمة، بل بواسطة تذكّراته المشظّاة، وبواسطة رؤاه أو تخيّلاته.
من الواضح أنّ هذا التكنيك ينفذ إلى التجربة الإنسانيّة بعمق أشدّ، لكنّه –في الآن ذاته- يجعل القارئ عاجزًا عن تكوين حُكم موضوعيّ حول أعمال البطل.
في حالة سعيد مهران، لا نعرف –مثلاً- حقيقة ادّعاءاته ضدّ زوجته السابقة وضدّ مساعده عليش.
نحن نتقبّل تأويله هو للأحداث لأنّنا لا نملك مصدرًا آخر للمعلومات، ولأنّ تعاطفنا مع سعيد يصعّب علينا اتّخاذ موقف غير متحيّز. نحن نُعطى شظايا من القصّة الكاملة، وننوَّم مغناطيسيًّا لنتقبّلها بوصفها الحقيقة الكاملة.
لكن رغم الشظويّة هذه، لا تفتقر صورة سعيد إلى الترابط المنطقيّ أو التماسك، وأفعاله ليست خِلوًا من المنطق الداخليّ (أو الباطنيّ)، العكس هو الصحيح، تطوّره منظّم جيّدًا، ويبلغ درجة معقولة جدًّا من خلق الشخصيّات (Characterization).

سعيد رجل مخدوع،

سعيد رجل مخدوع، ونستطيع بالتأكيد أن نتفهّم انتقاله إلى الانتقام الدمويّ من نبويّة وعليشK ولا يقلّ معقوليّةً تصميمُه الأخير على معاقبة رؤوف (مرشده الأيديولوجيّ السابق) الذي تفاقم تضليله لطريقة سعيد في التفكير أكثر لكونه مرتدًّا تخلّى عن تعاليمه هو.

وردّ فعل سعيد تجاه تضليل رؤوف له كان أن يحاول سرقة بعض ممتلكاته النفيسة (الأمر الذي يحتكم إلى غريزته اللصوصيّة وإلى فقره الحاليّ)، وبالتالي أنْ يمارس "مهنته" ضدّ "فيلسوفها" أو مفلسفها. ذلك أنّ علوان برّر لمهران أوّل سرقة قام بها هذا الأخير، إذ قال له ما مفاده أنّه سَرَق لأنّه سُرِق (هذا ما معناه أنّ الأثرياء لصوص كبار، أنّهم يكوّنون ثرواتهم باستغلالهم للفقراء – وتلك فكرة ثوريّة، بلا ريب)، واعتبر هذا العمل "عملاً مشروعًا" يدخل ضمن دائرة الصراع الشريف لإقرار العدالة الاجتماعيّة.

فيما بعد، حين أخذت صحيفة رؤوف ("الزهرة") تحرّض الجمهور ضدّه، أصبح الصحفيُّ عدوَّ سعيد مهران الرئيسيّ إلى حدّ أنّ الخائنين الأصليّين - نبويّة وعليش- أصبحا في أهمّيّة ثانويّة في فكره. خلال الساعات الطويلة التي قضاها في توحّد وتأمّل، طوّر مفهومه: إنّ قضيّته ذات مغزى عامّ؛ إنّ المضطهِدين هم قامعو الأمل والضوء -وبكلماته هو: "إنّ مَن يقتلني إنّما يقتل الملايين، أنا الحلم والأمل وفدية الجبناء"... "قتْل رؤوف قتْلٌ لرمز الخيانة، معاقبة لكلّ الخونة في الأرض".

تحوّله هذا، من منتقم شخصيّ إلى منتقم في سبيل "الملايين"، يُعزَى إلى موهبته الفائقة. سعيد ليس صيغة راكدة أو متحجّرة، بل شخصيّة متطوّرة.

موقف مهران من نور

موقف سعيد من نور هو أيضًا مثال آخر يُظهِر بوضوح الكمال في خلق شخصيّته، في البداية، هي شريكة في سرقة سيّارة، وفيما بعد هي التي منحته الملجأ. هو ليس مختلفًا عنها، بكونه محكومًا لأفكاره الانتقاميّة. في نقطةٍ ما، يُجري مقارنة بينها وبين نبويّة الخائنة ("ولن ينسى في النهاية أنّها امرأة كما أنّ نبويّة امرأة").
لكن مع مرور الوقت، ومن خلال حبّها غير الأنانيّ، يتبدّل سعيد -بصورة غير واعية- إلى امرئ أكثر رقّة وحنانًا. بمرور الوقت، تختفي نور ("وأغمض عينيه في الظلام واعترف اعترافًا صامتًا بأنّه يحبّها، وأنّه لا يتردّد في بذل النفس ليستردّها سالمةً"). وفي الحقيقة، إنّ توقيت الاعتراف يغري بالتشكيك في صدق حبّه، ما إذا كان ذاك أكثر من حبّ "أنانيّ" للملجأ والطعام اللذين وفّرتهما نور له. بيد أنّ حواراته الأخيرة معها المتخيَّلة الشاعريّة المُعانِية لا تترك مجالاً للشكّ في صدق إحساساته.

الناحية السيكولوجيّة

الناحية السيكولوجيّة مكتومة جيّدًا، مناجاة سعيد المستمرّة لنفسه كأنّها مخصّصة لتنقل – بشكل غير متطفّل – الخلفيّةَ والمعلومات السيكولوجيّة، لكن في ذلك ما هو أكثر من مجرّد أداة نقل معلوماتيّة، أفكاره الباطنيّة تصوَّر كتدفّق الحياة نفسها، المواضيع التي تقلقه تخرج وسط أفكار أخرى تمرّ عَبْر ذاكرته.

تصبح الناحية السيكولوجيّة أقلّ وضوحًا كذلك بسبب الغنائيّة الدائمة الانتشار، ماضي سعيد (وبخاصّةٍ مَشاهد الحبّ مع نبويّة) يُحْضَر إلى القصّة على هيئة ارتجاعات فنّيّة (Flash-back ) قصيرة ودراماتيكيّة مفاجِئة، تحفظها من الظهور بمظهر مادّة إضافيّة مُعَدّة لتسليط الضوء على جذور الحالة الذهنيّة لحاضر البطل.

الصوفية توازن السيكولوجيا

الصوفيّة توازنُ السيكولوجيا الصوفيّة توظَّف هنا في هذه الرواية. شخصيّة علي الجنيدي، الشيخ الصوفيّ، بأقواله الخفيّة المتواصلة، يشكّل عنصرًا شديد الأهمّيّة في الرواية. روحانيّته الهادئة تقابل الاضطراب النفسيّ في مشاعر سعيد. علاوة على ذلك، المَشاهد الجميلة المحمَّلة بالصوفيّة في بيت الشيخ تضع مأزق سعيد في مستوى يفوق أيّ استغراق في سيرورات [السيرورة: process] روحيّة أو ذهنيّة. عَبْر فصوله الصوفيّة، تكتسب حالة سعيد بعدًا وجوديًّا، وتكتسب أفعاله دلالة ميتافيزيقيّة (غيبيّة). بعد قتله رجلاً بريئًا بدل عليش، يفكّر سعيد مليًّا: "وأنا القاتل لا أفهم شيئًا ولا الشيخ علي الجنيدي نفسه يستطيع أن يفهم. أردت أن أحلّ جانبًا من اللغز فكشفت عن لغز أغمض".

خلاصة

إنّ التكنيك الجديد لم يحرم الكاتب إمكانيّة الاختراق أو التغلغل النفسيّ، فقد اتاح له أن يعيش تجربة سعيد الشخصيّة، وبالتالي، نتماثل نحن القرّاء مع سعيد –وإنْ جعلتنا بعض ردود فعله نأخذ انطباعًا عنها بأنّها تعجرفٌ أو أنّها مضطربة عديمة التوازن، الراصد أو المراقب غير المتحيّز قد يجده مصابًا بالبرانويا (الإحساس المَرَضيّ بالاضطهاد)؛ وقد يَصِمُه آخَرُ بأنّه مصاب بجنون العظَمة، أو بالثقة الزائدة بالنفس، أو بالعنجهيّة، فعلاً هو نفسه يعكس في نقطةٍ ما أنّه "وهو بين الناس يتضخّم كالعملاق ويمارس المودّة والرياسة والبطولة"، وفي مناسبة أخرى، يعتبر نفسه عظيمًا حقًّا ("فقضى بأنّه عظيم بكلّ معنى الكلمة، عظمة هائلة")، غالبًا هو يفشل في رؤية عجزه أو محدوديّة مواهبه، إثرَ مغادرته السجن، يطلب من رؤوف -وإنْ كان في ذلك محدودَ الجِدّيّة – أن يوظّفه صحفيًّا، ولكن كما يشير رؤوف، بصدق، هو ليس مؤهّلاً لذلك، ولذلك يُرفَض طلبه، فيما بعد يخاطب سعيد رؤوفًا في خياله كالتالي: "لو قبلتَ أن أعمل محرّرًا في جريدتك يا وغد لنشرتُ فيها ذكرياتنا المشتركة ولَخسفتُ نورك الكاذب"، في هذه الكلمات نسمع -إلى حدّ بعيد- صوتَ غروره أو وهمه كمثل صوت سذاجته المثيرة للشفقة.




bilan deisgn
كاتب ومحرر اخبار اعمل في موقع أجي تقرا باش تنجح وتفرح الوالدين وتشق طريقك للمستقبل .

جديد قسم : ملخص رواية اللص والكلاب

إرسال تعليق